وأشهر فرقة تبنت آراء جهم -ولا سيما في مسألة الإيمان والقدر- مع شيء من التحويل والتحوير والإضافة، هي فرقة الأشعرية ؛ فقد جاء بعد جهم عبد الله بن سعيد بن كلاب، فأخذ كثيراً من مقالاته، وسبكها في مذهب خاص.
ثم جاء أبو الحسن الأشعري؛ بعدما رجع عن الاعتزال -وكان في ذلك الرجوع ردة فعل عنيفة ضد المعتزلة- فرجع إلى النقيض، فوجد النقيض في مذهب الجهمية، فرد على مذهب المعتزلة في أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين بما قالته الجهمية وهو أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وأن مجرد التصديق بالقلب يكفي في الإيمان، فقال بذلك الأشعرية، وإن كان أبو الحسن رحمه الله قد رجع عن ذلك، ولكن المقصود أن هذا هو مذهبه بعد رجوعه من الاعتزال، والذي تطور عن مذهب الكلابية وتأثر بأقوال الجهمية؛ فـجهم يقول: الإيمان هو المعرفة القلبية، والأشعرية يقولون: هو التصديق القلبي، وكلا القولين على أن الإيمان قلبي معرفةً أو تصديقاً! ولا يستطيع العقلاء أن يميزوا وأن يفرقوا بينهما، فمذهب الأشعرية هو في حقيقته مذهب جهم .
ثم جاءوا في مسألة القدر بردة فعل أخرى للمعتزلة في نفي القدر، فأثبتوا القدر حتى قالوا بأن الله هو الذي يفعل كل شيء، وأن الله هو الفاعل حتى لأفعال العباد -تعالى الله عما يصفون- وكيف يكون الله هو الفاعل لأفعال العباد والعباد يفعلون الزنا واللواط ويشربون الخمر ؟! ويفعلون ما لا يليق أن ينسب بأي حال من الأحوال إليه سبحانه وتعالى؟!
ولكي يفروا من التجهم الواضح، قالوا: نحن نقول بالكسب، أي: أن الله فاعل والعبد كاسب، فلما أراد العقلاء أن يفرقوا بين الجبر وبين الكسب، لم يجدوا فرقاً بينهما كما لم يجدوا فرقاً بين المعرفة والتصديق القلبيين، وهكذا تطور ذلك المذهب الذي ظهر فيما بعد وانتشر.